معنى أن تكون ناضجًا

ما زالت الحياة تسير على نسقها المعتاد، كلّ شيءٍ آخذٌ في النمو شيئًا فشيئًا، بما في ذلك نحن، والنضج الذي وصلت أقصاه، غدًا تكسر سقفه الافتراضيّ لتصل إلى ما هو أعلى منه، وفي كلّ مرّة تنضج فيها، ستكون أكثر تطلّعًا إلى مزيدٍ من النضج الذي يجعلك تواجه العالم بقشرةٍ قويّة ولبٌّ حلوٍ طريّ.

   تعتبر مدركاتك وتجاربك بمثابةِ خلايا جديدة؛ يزداد بها نموّ نفسك وتلحظ بها نضجكَ الذي يعتمد في أساسه على كثافةِ حياتك لا حجمها، فبالإدراك والتروّي -لا مجرد الاجتيازِ العابر للأماكن والزمن- تضيفُ لك الأحداثُ والتجارب مَعَانٍ تضمن بها نضوجًا غير مشوّه ونماءً أكثر اتساقًا مع ما مررت به، والاستبصار والمعايشة -لا الإبصار والعيش- هو ما يكفل لنا نموًّا سليمًا يبلّغنا رشدنا.

   ولا يعني النضج تسيّير الأحداث والمواقف على وتيرةٍ واحدة، فكلُّ التغييرات والقرارات تكون مُستندةً على المعطيات. وكلّما دعت الحاجة، ستصهر معرفتك وخبراتك وما هو منك وفيك؛ لتكوّن خليةً مناسبةً بدلًا من سدّ ثغراتك بِحِكَمٍ جاهزة يتسرّبُ إليكَ باستخدامها مشاكلُ من ذات النوع.

   بالنضج تُوازِنُ بين الجوانبِ والجهات ولا تميل إلى إحداها على حساب الأخرى، وبهِ تكون زاويةُ رؤيتكِ للأمور أوسع، ونظرتك إليها أشمل؛ تتجاوزُ بهِ السطحيّةَ ناظرًا إلى الأشياء بمختلف أبعادها طولا وعرضا وعمقًا.   تنتقلُ بالنضج من دائرة رغباتٍ أضيق إلى دائرةٍ أوسعَ تتطلب منك الانطلاق إلى ما هو أجدر بالنيل والتملّي. وباتساع حيز رغباتك وتنوّعها؛ سيأخذ التشوّفُ لرغباتك البعيدة من تركيزك، وسيكون التفاتك إلى رغباتٍ صغيرة وقريبة أقل حدوثًا وتكرارًا. بالنضج تعيش الحياة بمعنىً أكثر رحابة، تستعذِب فيه طعم التجربة ومذاق المحاولة، وتستشعرُ فيه لذّةَ الأنفةِ عن صُغريات الرغبات من أجل الوصول إلى المُبتغيات.

في الاغتراب عن الذات

يُعتبرُ الاغتراب عن الذات وبحسب ما يصفه فروم “تشيؤًا” يفقد معه الإنسان إنسانيّته باعتماده على قوىً خارج نفسه، قوىً صادرةٍ عليه لا منه. ويصير معه الإنسان المغترب أشبه ما يكون بدمية في مسرح الحياة تحرّكها خيوط العالم دون أن يبدو فيها من الآدميّة شيء، بأفعالٍ ظاهريّة لا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بما في الباطن.
ومثلما لا تكتمل ماهيّة الطيور إلّا بطيرانها وتحليقها، يحتاج الإنسان من أجل تحقيق ذاته وماهيّته الكاملة إلى أن يتعامل مع العالم كسماواتٍ وفضاءات، وأن يحلّق فيها مُؤثِرًا عناء التحليق على ألمِ السقوط؛ مقاومًا باستمرار كلّ ما يعرض لذاته من رياح الاغتراب. وحريٌّ بكلِّ روحٍ أن تواجه اغترابها بإحداثِ اتساقٍ بينها وبين هذا العالم؛ بأن تؤثّر فيه ويؤثّر فيها، وأن تتعرّفَ عليه معترفةً بهِ وأن يتعرّفَ عليها معترفًا بها؛ لتمكّن ذاتها من أن تتجلّى، ولِترى انعكاسها في مرآة العالم.
ولوجود اختلافٍ دائمٍ بين الواقع وبين الحلم، وبين ما هو مفعولٌ وما هو مأمول؛ ستأتي الحاجة إلى تبديد كلِّ اغترابٍ متولّدٍ بالمواءمةِ بين ما نجده من مكوّنات هذا العالم وبين ما يوجد من مكنونات النفس، وبالمقاربة بين مرأى العالم وبين رؤانا. وتأتي الفلسفة كأحد أهم الأشياء التي تقوم بهذا الدور، وهي وبإحدى صورها وتمثّلاتها، موجودة فينا جميعًا؛ كما يقول كارل بوبر: “إنّ كلَّ رجلٍ وامرأة هو فيلسوف، إنّما بنسبٍ مختلفة، فهناك دائمًا رأيٌّ أو موقف، والفلسفةُ ليست بعيدةً جدًّا عن هذا”(3).
وسيجد المرء–ما دام في دائرة التأثير والتأثّر- أنّه يُغيّرُ ويتغيّرُ بالقدرِ الذي لا تظلّ معه هذه الذات هيَ هي، ولينتهي به الأمر إلى اغترابِ ذاتهِ عن العالم من جوانبَ جديدة، وحينئذٍ سيكون الفرد مخيّرًا –ككل مرّة- بين التماهي مع ما يواجه، أو ممانعة الاغتراب بكل ما يمكن من سبل الممانعة؛ مما يعني أنَّ الاغتراب بصورتهِ المتكرّرة ما هو إلّا مكوّنٌ أساسيٌّ من مكونات الوجود، والذي لا ينفكُّ عنه بحالٍ من الأحوال.
وبين الحين والآخر، ومن أجل أن نحافظ على ذواتنا كذواتٍ أصيلة؛ لا بدّ لنا من أن نعتزل ضوضاءَ الحشود مُصغين إلى صوت الذات، متعرّفين على إيقاع الحياة الملائم لها، وأنّ نظلّ باستمرار متحركين جيئةً وذهابًا من وإلى ذواتنا، محافظين على مسافات الانفصال، مبقين على جسور الاتصال، بين ضفة الأنا وبين ضفة العالم.


مراجع:
١. الإنسان المغترب عند إريك فروم، حسن حمّاد.
٢. الاغتراب: سيرة مصطلح، محمود رجب.

3.The owl of Minerva: philosophers on philosophy, p.42.

أناكَ التي تليق بك

باتَ غريبًا في هذا العالمِ الفظّ أن تعمل شيئًا دون نتائجَ محسوسة؛ أن يكون كلُّ ما تأمله ممّا تعمله نيلُ أشياءَ من قبيل إيجادِ كوامن الذات، أو الخروج بحصيلةٍ من ذكريات. بتَّ مضطرًا أن تكبتَ -قسرًا- أشياء دقيقةً ورقيقةً تعومُ داخلك، أن تُسكتَ شاعريّتكَ رهبةً لا رغبة، أن تأنفَ عن الالتفاتِ والوقوف لتأمّل زهرةِ فكرة؛ حتى تظلَّ محسوبًا مع المنتجين الصالحين للاستعمال، ماضيًا مع العداةِ في مضمارِ الحياةِ كأبله مشدوهٍ يؤثرُ الجريَ في رمضاءِ الاضطراب والوهم على الوقوف في ظلال التأمّل والحقيقة.

صرتَ تُطوِّع كلّ شيءٍ فيك -بما في ذلك رغبة التأمّل والتفكير لديك- في مجاراةِ جشعِ العالم ورغبته في إنتاجك؛ لتصبح حتّى ابتكاراتك التي تفكّرُ بها إنتاجًا يُجدّد -مقابل تجديده سُبُل الرفاهية والاستهلاك- معاييرَ أخرى لتحديد الفقرِ والبؤس.

   أستطيعُ أن أتصوّر – بكلّ ما يمكنني من دقّة- مآلكَ ما دمتَ ماضيًا قدمًا في سبيلٍ كهذه. ستَلوكُكَ هذه المدنيّةُ ثمّ تلفظكَ بكلّ قوةٍ لتصيرَ في حافّةِ العالمِ مجردًا من كلّ شيء، تتجرّعُ كونكَ عديمَ أهميّةٍ كفردة حذاءٍ اِنتُعِلَتْ بما يكفي قبلَ أن ترمى مع بقية الخردَوَات. حينها ستكونُ كلُّ منافذكَ إلى الحياة قد أُغلقَت؛ لتصبحَ حبيسَ نفسك، وتكتشف إلى أي حدٍّ كنتَ أجوفَ خاويًا، وحين تتحسّسُ نهاياتِك، سَتَروعُكَ هشاشةُ قشورك، وسترعبكَ خطورةُ كونكَ آيلًا للانكسارِ في أيّةِ لحظة.

لا نصوصَ غَرسْتَهَا، ولا مشاعِرَ سقيتَها، لا شيءَ سوى قلبٍ هزيلٍ مؤوفٍ تذروهُ رياحُ الوحدة.
لا اعتقادات تؤويك، ولا عزاءات تحنو عليك؛ تشرّدٌ كانَ نتاجَ سطحيّتكَ التي أدّت بكَ إلى ارتداءِ عقلٍ جمعيٍّ يضمنُ لك الجريانَ وفقَ تيّارٍ ما دون أن تكلّفَ نفسكَ عناءَ الإبحارِ في الأفكار.

سيوجعكَ أن ترى روحكَ المنهكةَ الضئيلةَ قد انزوَت في أحدِ جوانب نفسك متسوّلةً دفئًا ممّا تبقّى من جذوةِ فطرتك، موزّعةً في أرجائك نظرات عتابٍ واستجداءٍ في أن تجد منكَ ما يعينها على ملءِ كلِّ هذا الخواء.

لا غروَ أن تجد روحكَ بتلك الضآلةِ ما دامت المدنيّةُ -التي نَزَعت من الطبيعةِ روحيّتها- قد صبغتكَ بصبغتها؛ لتصيرَ أنتَ إنسالةً معطوبةً بُرمِجَتْ على أنّها لا تصلحُ إلّا لِمَا قد عَطِلَت عنه وإلى الأبد. ولا عجب أن تُنهَكَ هذه الروحُ بعدَ أن عَدَتْ في سلالِمِ الزمن دركةً دركة إلى أن بلغتْ أرذل عُمركَ لاهثةً، تحاولُ جاهدةً استجماع قواها لبدءِ رحلةِ العروجِ إلى سماواتِ الأبديّة.
ستكتشفُ متأخرًا أن ذلكَ الكأسَ الأنيقَ الذي أغراك؛ جرّعَكَ حياةً آسِنة. وأنّك ممّن كانت الحياةُ تأتيهم من كلِّ مكانٍ وما هم ببالغيها.

  أن تؤلمكَ الآنَ سياطُ تعابير كهذه خيرٌ لك؛ إنّه من قبيلِ أن تصحو من غفوةٍ قبلَ أن تهجع، وأن تئنّ روحكَ قبلَ أوانِ الأنين، شيءٌ كهذا يذكّرك بأن تظلَّ متيقّظًا لما يعرضُ عليك، متلمِّسًا الفرقَ بينَ الوسائلِ والغايات؛ لتنالَ أناكَ التي تليقُ بك.